المقدمة ...



موضوع الزواج المبكر يختلف لدى الناس قبولاً ورفضاً، كل حسب واقعه ومعتقداته والبيئة المحيطة فيه، ولكني أرى – من وجهة نظري – أن الزواج المبكر آفة من أفات المجتمع يقتل في طريقه أحلام وطموحات وبراءة الفتيات، وأعتقد أنه يسلبهن الفرصة على النضوج والتعلم والرقي والعمل، ورغم أن هذه الظاهرة غير واضحة في مجتمعنا، وأن هناك قوانين تحكمها، إلا أنك إذا بحثت جيداً ستتعرف على الكثير من القصص من واقعنا، والتي تدور رحاها حول فتيات بعمر الورد وفي مقتبل العمر  مررن بتجارب عصيبة بسبب ذلك الزواج. من هذه الحالات ما ينتهي بالطلاق وتشرد الأبناء، ومنها ما يستمر زواجاً بلا معنى، ومنها ما يستمر وينجح، وكل قصة منها تعتمد على الأشخاص أي الزوج والزوجة، الذين يلعبان الدور الرئيسي في القصة، إضافة إلى طبيعتهما والطريقة التي ينظران بها إلى الحياة، ومدى الوعي الذي يتشكل بعد الزواج، وكل تجربة من تلك التجارب مهما كانت محصلتها، إلا أن أحد أهم مكوناتها الألم والفقد.

أن موضوع الزواج المبكر يختلف لدى الناس قبولاً ورفضاً، كل حسب واقعه ومعتقداته والبيئة المحيطة فيه، ولكني أرى – من وجهة نظري – أن الزواج المبكر آفة من أفات المجتمع يقتل في طريقه أحلام وطموحات وبراءة الفتيات

إن ذلك الزواج يمنع اي فتاة من إكتشاف ذاتها، والعالم من حولها. لا تستطيع الفتاة التي تتزوج باكراً في سن صغير رسم طريقها الذي ترغب في الحياة وبناء شخصيتها ومستقبلها التي تستحق. حتى وإن إستمر ذلك الزواج ونجح نوعاً ما، سيبقى هناك أجزاء مفقودة لا تستطيع الفتاة مهما طال بها العمر أن تعوضها، إلا ما ندر.

وهنا سأقص قصة وتجربة واقعية لهذا الزواج مرت بها أحد الفتيات. وكان لها حظ من تلك القصص، ولكن قصتها مع ذلك الزواج كانت مختلفة، قصة مختلفة عن مثيلاتها، ذلك الزواج جعلها تسلك دروباً غيرت مسيرة حياتها، وما زلت حتى الآن وهي على مشارف الأربعين ورغم كل ما تخطته تحمل آثاراً وندوباً منه، وما انفكت تخبرني بأن معظم قراراتها في الحياة  تعود في أساسها لتلك التجربة، فلقد كان ذلك الحدث هو أولى خطواتها لدخول معترك الحياة.

 تلك القصة التي ابتدأت في مساء يوم دراسي، حين عادت من مدرستها وهي ما تزال بالصف العاشر تحمل حقيبة أحلامها وطموحاتها وامنياتها على ظهرها، وتحمل قلباً ابيض نقياً وطاقة خلاقة وانفتاحاً ونشاطاً وآمالاً وأقلاماً، ودخلت المنزل لتجد عمها الكبير وعائلته قد جاءوا لزيارتهم، بالطبع استغربت لانه ليس من عادتهم أن يقوموا يزيارتهم، للفارق الإجتماعي في الطبقات، فعائلة تلك الفتاة كانت تقطن في المخيم، وكانت هي ترتاد مدارس وكالة الغوث ، مدارس وكالة الغوث للاجئين الفلسطنين، نعم ، كانت ترتاد تلك المدارس وكانت الأولى ليس فقط على صفها بل على الشعب الخمس الآخرى، وكانت متعددة المواهب، فهي رئيسة اللجنة الصحية والإجتماعية، وعضو فعال في لجنة التمثيل، وقائد الفريق العلمي.. وغيرها مما لم تعد تذكر بعد مرور كل تلك السنين، ولكنها ما زلت تذكر جيداً أنه عندما كانت تسير في ساحة المدرسة، كانت ترى نظرات الطالبات وهمسهن: ” تلك هي فلانة” يومئن بأيدهن بطريقة يعتقدن أنها لا تراها بعينيها التي تقع في الجزء الخلفي من رأسها، وكانت جميع معلماتها يغدقن عليها بالمدح متحاورات معها فيما ستصبح عندما تكبر، وأي تخصص يجب أن تختار عند دخولها للجامعة، وكانت -كما ذكرت – محتارة حينها مترددة وقد حلمت بألف تخصص وفكرت بمليون مهنة، وبينما كانت هذه هي بيئتها في المدرسة، وكانت تلك نظرة من حولها لها، كانت قريباتها وبنات عمها يلقبننها بالمنعزلة والانطوائية؛ لأن اهتماماتها كانت مختلفة عنهن وكن يلقبننها بالكثير من الأحيان بالمغرورة، كل هذا لأنها كانت تمضي وقت فراغها بالقراءة والكتابة والدخول لعالمها الخاص، هذا لا يعني انه لم يكن لها صديقات، بل كانت صديقاتها من المدرسة وكن يقمن بالكثير من المقالب ويمضين الكثير من الأوقات المرحة سوياً، ولكن الفارق أن هناك شيئا مشتركا كان بينهن وهو تلك الرؤية المستقبلية الواسعة المدى والتي تطل على عالم مضيء كبير مليء بالنجاحات والانجازات والتفوق والتميز، عالم يحترم كيان المرأة ويقدرها ويعطيها حقوقها ويمنحها اختياراتها، ذلك العالم الذي اختفى فجأة في ذلك اليوم عند زيارة عمها لهم.

لكن الفارق أن هناك شيئا مشتركا كان بينهن وهو تلك الرؤية المستقبلية الواسعة المدى والتي تطل على عالم مضيء كبير مليء بالنجاحات والانجازات والتفوق والتميز، عالم يحترم كيان المرأة ويقدرها ويعطيها حقوقها ويمنحها اختياراتها، ذلك العالم الذي اختفى فجأة في ذلك اليوم عند زيارة عمها لهم.

وفي مساء ذلك اليوم لبست خاتم الخطوبة وتم قراءة الفاتحة كموافقة مبدئية، بعد أن سألها والدها ثلاث مرات عن رأيها، وكانت تجيب كل مرة : “الذي تراه مناسباً يا أبي”، فلم تكن تملك خياراً آخر، وفي صباح اليوم التالي تغيبت عن المدرسة كي تعقد قرآنها، كانت الأمور تسير بسرعة البرق وشعرت بأن الحظ قد خذلها وهي من كانت قد اتفقت معه على بناء المستقبل سوياً، ماذا عساها أن تفعل وهي إبنة الخمسة عشر عاماً، كبيرة إخوتها الستة، شعرت بأن العجز  قد احتل حواسها الست أيضاً. إن الشعور بالعجر الذي تشعر به الفتيات عند عدم القدرة على تحقيق احلامهن أو التحكم بمصيرهن، شعور لا يضاهيه شعور. إنها تشعر تماما كتلك التي تدفن حية خوفاً من العار.

وكانت كلماتها عن العجز كالآتي :”  أصبحت مجردة من كل المشاعر، من الأحاسيس. افكر باللاتفكير وكل مشاعر اللاشعور تعتريني، أصبحت أشعر بأني جثة تمشي، حتى أني  تعرفت على شعور الأحياء الأموات حينها، وبأني لم أعد أسير على الأرض، فمهما وصفت فلن يستطيع أحد استيعاب وتخيل ماهو ذلك الشيء الذي كنت أسير عليه، أصبحت زوجة أحدهم على ذمته، ولم يبق سوى أن ألبس كفني الأبيض وأدفن تحت التراب، أو تحت أي شيء آخر، المهم بأني سأدفن. تنفست الآسى بعيني معلماتي وكنت أقاوم بضعف ضعف مقاومتي،  وفي أحد الأيام كنت أحاول مواساة نفسي عندما أخبرت احد زميلاتي بأن الدراسة بالمدرسة لن تزيدني علماً لأن العلم موجود بالكتب وهي متاحة بكل مكان، على العكس فأنا أستطيع أن أتعلم ما أرغب واقرأ ما أريد، لا ما يفرضه علي المنهاج المدرسي، كانت تلك الكلمات تذوب في فمي محاولة تخفيف طعم المرارة التي سكنت حلقي ومعدتي.” ، فتاة ما زالت في عرف القانون طفلة تتحدث بتلك اللغة وتتفوه بتلك الكلمات. أي ظلم ذلك.

 استجمعت قواها وكلماتها المتلعثمة يوما خلال فترة خطوبتها وأخبرت والدها بأنها لا ترغب بالزواج، فأخبرها بأن يمكن أن يذبحها كما تذبح الشاة. فكيف له أن يكسر كلمات أخيه الكبير الذي يكن له كل الإحترام. فصمتت صمت الموتى واستسلمت من جديد.

كانت القراءة هي فصولها الأربعة، من خلالها إستطاعت التغلب على الشعور بالغربة عن النفس،  كانت تدخل إلى عوالم مختلفة كبيرة وصغيرة متعددة الألوان والأشكال والروائح، ورغم أن طموحها كان قد بلغ عنان السماء، إلا أن حظها أسقطها إلى سابع أرض

ومضت بقية الأشهر ليحين موعد الزواج، حان موعد دفنها وهي مستعدة للموت كتلك التي يقدمونها قرباً للألهة، تزوجت  من إبن عمها الذي يكبرها فقط بثلاث سنوات بعد مضي تسعة أشهر من خطبتها، كانت قد أنهت حينها الصف الأول ثانوي العلمي بمعدل 93 % رغم كل الظروف التي مرت بها خلال تلك الفترة، لقد كانت القراءة هي فصولها الأربعة، من خلالها إستطاعت التغلب على الشعور بالغربة عن النفس،  كانت تدخل إلى عوالم مختلفة كبيرة وصغيرة متعددة الألوان والأشكال والروائح، ورغم أن طموحها كان قد بلغ عنان السماء، إلا أن حظها أسقطها إلى سابع أرض. وكان ابن عمها قد ترك المدرسة قبل سنوات، حيث لم تكن الدراسة احد اي من اهتماماته، بل إنه لا يعرف القراءة والكتابة، لم يكن ذلك الفرق فرقاً بالنسبة لأهلها، لكن بالنسبة لها كان كإقتران الثرى بالثريا. حاولت  جاهدة رغم ضعفها وقلة حيلتها بالإفلات وعدم الإرتباط، لم يكن الزواج أحد أحلامها على الأقل في تلك المرحلة العمرية، فكيف لها أن ترتبط بتلك الشخصية التي لا يربطها بها أي شيء من بعيد ولا قريب،  فلم يكن مجرد زواج مبكر، لا بل ومن الشخص الخاطئ تماما.

إن عدم التكافؤ الفكري بالزواج وخصوصاً المبكر منه، سواء كان الأقل كفاءة الرجل او الفتاة هو من أهم العناصر التي تجعل من ذلك الزواج بؤرة غير صحية ليس فقط للزوجين بل وللأطفال أيضاً. فليس هناك لغة حوار أو تفاهم يستطيعون من خلالها حل مشاكلهم وتجاوز صعوبات الحياة. فتمضي الأيام ملونة بالبؤس والشقاء، ليخرج اطفال ذلك الزواج للمجتمع مشوهين عاطفياً
بقلم /منيره العزعزي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تربة الحجرية تتراقص على أنغام المؤآمرات

خرب امرأة

لنتعايش